
أدانت منظمة «صحفيات بلا قيود» بأشد العبارات الجريمة المروّعة التي كشفت عنها وزارة الصحة في غزة عقب تسلّمها 150 جثمانًا من جثامين الفلسطينيين الذين تحتجزهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وتحديداً منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة.
وكشفت المعاينة الطبية والآثار الظاهرة على الجثامين عن انتهاكات صارخة تعرّض لها الضحايا قبل إعدامهم، وهي انتهاكات ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
بحسب التقارير التي اطلعت عليها المنظمة، فقد سلّمت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الجثامين إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي بدورها سلّمتها للجهات المختصة في غزة. وأظهرت نتائج الفحص الأولي أن عددًا من الجثامين تحمل آثار حبال حول الأعناق بما يدل على تعرّض أصحابها للشنق، في حين أكّد الأطباء وجود آثار لأعيرة نارية أُطلقت من مسافة قريبة جدًا على عدد من الضحايا. كما تبين أن بعض الجثث كانت معصوبة الأعين ومقيّدة الأيدي والأقدام بمرابط بلاستيكية، في مشهد يجسّد أقصى درجات التنكيل.
أكد ذلك، مدير عام وزارة الصحة في غزة بتصريحات صحافية: «الجثامين التي استقبلناها كانت مقيدة كالحيوانات، معصوبة الأعين، وعليها آثار تعذيب وحروق بشعة تكشف حجم الإجرام الذي ارتُكب في الخفاء». وأوضحت الوزارة في بيانها الصادر يوم الأحد 19 أكتوبر الجاري أنها تمكنت حتى الآن من التعرّف على هويات 25 جثة فقط، بينما تبقى 125 جثة مجهولة الهوية بسبب التحلل الشديد والتشويه الواسع في الملامح والأطراف، بينما أشار عاملون في الطب الشرعي إلى أن معظم الجثامين تحمل دلائل قاطعة على التعذيب والإعدام بطرق وحشية، لافتين إلى وجود بقايا جثث سُحقت تحت جنازير الدبابات.
وذكَّرت صحفيات بلا قيود، بما أكده، في وقت سابق، الأطباء الذين فحصوا بعض الجثامين المحتجزة سابقًا لدى الاحتلال، حيث كشفوا عن وجود أدلة على سرقة أعضاء الضحايا، وهذه الدلائل تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي السياق، أشارت المنظمة إلى أن نقص المعدات الطبية والإمكانات في قطاع غزة نتيجة الحصار الشامل واستهداف المستشفيات يعرقل عمليات الفحص والتوثيق والتعرّف على هوية الضحايا، مما يطيل أمد معاناة الأسر التي تنتظر معرفة مصير أبنائها.
المساومة بالجثث
تستخدم سلطات الاحتلال الإسرائيلي جثامين الفلسطينيين كورقة مساومة، في نهج معلن تبنته حكومة بنيامين نتنياهو في يناير 2017، ضمن ما عُرف بـ “السياسة الموحّدة” للتعامل مع جثامين الفلسطينيين، وهي سياسة أقرتها المحكمة العليا الإسرائيلية، ما أتاح للجيش احتجاز الجثامين واستخدام أساليب مهينة لكرامة الموتى، بما في ذلك جمع الجثث بالجرافات.
وتحتجز سلطات الاحتلال عشرات الجثامين في ثلاجات المركز الوطني الإسرائيلي للطب الشرعي، وتساوم على تسليمها بشروط تعجيزية، منها الدفن ليلًا ومنع المشيعين من الحضور، وتسليمها في حالة تشويه وتجميد.
ولفتت صحفيات بلا قيود المنظمة إلى أن السياسة الإسرائيلية تتعمد حجب المعلومات عن أعداد الجثامين والمفقودين قسرًا، مشيرة إلى ما نشرته صحيفة هآرتس العبرية في يوليو الماضي حول احتجاز نحو 1500 جثمان لفلسطينيين من قطاع غزة في معسكر “سدي تيمان”.
وكانت الحملة الوطنية الفلسطينية لاسترداد جثامين الشهداء، وهي حملة شعبية حقوقية وقانونية، أفادت بأن سلطات الاحتلال تحتجز منذ مطلع عام 2025 جثامين 479 فلسطينيًا، من بينهم ما لا يقل عن 256 جثمانًا في مقابر الأرقام، وهي مقابر أنشأها الاحتلال في أواخر الستينيات داخل مناطق عسكرية مغلقة وسرية، حيث تُدفن الجثث تحت لوحات تحمل أرقامًا بدل الأسماء، وتُحتفظ بملفات الضحايا كمجهولين دون تسليمها لذويهم.
بين الموت والإخفاء القسري
منذ بدء جريمة الإبادة الجماعية في غزة في أكتوبر 2023، بلغ عدد القتلى في السجون الإسرائيلية 79 معتقلاً وأسيرًا فلسطينيًا، بينهم 46 من أبناء غزة، وهو العدد الذي تمكنت المنظمات الحقوقية من توثيقه بعد ضغوطات ومطالبات دولية، فيما يظل مئات الفلسطينيين مخفيين قسرًا وترفض السلطات الإسرائيلية الكشف عن مصيرهم.
وأكدت صحفيات بلا قيود أن الانتهاكات المفضية إلى الموت داخل مراكز الاحتجاز تشكّل جزءًا من سياسة الإبادة التي تمارسها سلطات الاحتلال، وأشارت إلى أن الآثار التي ظهرت على الجثامين، إلى جانب شهادات المعتقلين المحررين، تمثل أدلة دامغة على الجرائم المروعة المرتكبة بحق الأسرى والمعتقلين والمخفيين قسريًا.
وأوضحت المنظمة أن سياسة التجويع والحرمان من الرعاية الطبية والمعاملة القاسية في السجون الإسرائيلية أدت إلى إعاقات وأمراض مزمنة بين الأسرى، وقالت إن الاحتلال ينتهك حق الفلسطينيين في الحياة والكرامة داخل أراضيهم، إذ يعتقل أكثر من 10,500 فلسطيني في ظروف قمعية ومميتة، وهو ما يستدعي التدخل العاجل لإنقاذهم.
إفادات المعتقلين
تضمنت المرحلة الأولى من اتفاق وقف الحرب في غزة، وفق خطة ترمب، الإفراج عن 1968 أسيرًا فلسطينيًا، في إطار صفقة تبادل الأسرى، ومن بين إجمالي الأسرى المفرج عنهم 250 من المحكومين بالمؤبد و1718 من أسرى قطاع غزة الذين اعتقلوا عقب بدء حرب الإبادة الجماعية.
منذ نوفمبر 2023، استقبل الفلسطينيون الأسرى والمعتقلين، في ثلاث صفقات، ووصل مجموع من تحرروا 3985 أسيرًا وأسيرة من الفئات العمرية المختلفة.
ورصدت صحفيات بلا قيود، شهادات مروّعة لعدد من الأسرى المحررين في الصفقة الأخيرة، حيث روى الأسير هيثم سالم أنه أُفرج عنه ليكتشف أن زوجته وأطفاله استشهدوا جميعًا. كما اصطدم الأسير محمد شفيق أبو شاويش بفقدان سبعة من أفراد أسرته، بينهم والده ووالدته.
وفي شهادة الأسير ناجي الجعفراوي قال: «مهما تكلمت لن أصف كل شيء، فقد بقينا مئة يوم مكبلي الأيدي والأرجل، معصوبي الأعين، لا نُسمح بدخول الخلاء إلا مرة كل يومين»، مشيرًا إلى أن السجانين كانوا يدوسون الأسرى بأقدامهم.
أما الصحفي الفلسطيني شادي أبو سيدو، العامل في قناة “فلسطين اليوم”، فقال: «السجن كله عذاب، كله تكسير، كله شبح. كسروا يدي وضلوعي، وضربوني عمدًا على رأسي وعينيّ لأني مصوّر صحفي»، مضيفًا أن الدم ظل يسيل من عينه دون علاج. وقد أبلغته سلطات الاحتلال كذبًا بمقتل زوجته وطفليه، قبل أن يكتشف عند الإفراج عنه أنهم أحياء.
مؤشرات وانتهاكات
وخلال الحرب، رصدت «صحفيات بلا قيود» عشرات الجرائم المهينة للكرامة الإنسانية، وثقتها مقاطع مصوّرة وصور نشرها جنود الاحتلال أنفسهم، أظهرت اعتقالًا قسريًا وتجريدًا من الملابس وربطًا للأعين، إضافة إلى شهادات نساء فلسطينيات تعرّضن للعنف الجنسي أثناء الاحتجاز.
وظهر وزير الأمن القومي الإسرائيلي في صور عدة يسيء معاملة الأسرى والمعتقلين ويهين النساء الفلسطينيات، في مشاهد تؤكد الطابع المنهجي للجرائم التي تستدعي تحقيقًا دوليًا عاجلًا ومساءلة شاملة للمسؤولين.
وأكدت المنظمة أن ما تكشّف من مشاهد لجثامين الفلسطينيين يمثل نمطًا منهجيًا من الإخفاء القسري والتعذيب والقتل العمد، ويشكّل حلقة جديدة في مسلسل الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.
وشددت صحفيات بلا قيود على أن ما يجري ينتهك بوضوح اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، خصوصًا المواد (27 و32 و33) التي تحظر التعذيب والمعاملة القاسية والاعتداء على الكرامة الإنسانية.
استنادًا إلى ما سبق، تطالب منظمة صحفيات بلا قيود، بما يلي:
ـ فتح تحقيق دولي عاجل ومستقل تحت إشراف الأمم المتحدة في الجرائم المرتكبة بحق الضحايا الفلسطينيين المحتجزين لدى سلطات الاحتلال.
ـ محاسبة المسؤولين الإسرائيليين على هذه الجرائم باعتبارها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.
ـ تمكين المؤسسات الطبية والحقوقية الفلسطينية والدولية من دخول قطاع غزة لتوثيق الأدلة وإجراء الفحوصات اللازمة للجثامين.
ـ إلزام سلطات الاحتلال بوقف احتجاز الجثامين فورًا وتسليمها إلى ذويها وفق الأعراف والاتفاقيات الدولية.
