العربي الجديد - شادي ياسين: عندما علَت أصوات شباب الثورة اليمنية عام 2011 طلباً للحرية، كان الصحافي عبد الخالق عمران يدير مركزاً إعلامياً في ساحة التغيير في صنعاء. من بين عشرات المقالات والمواد الإخبارية التي كتبها حينذاك، كان حلمه الأبرز أن يكون للإعلام على الأقل هامش حرية أكبر.
لكنه وبعد عشرة أعوام من الحلم، بات وراء القضبان ومحكوم عليه بالإعدام. فمنذ انقلاب مليشيا الحوثيين في 21 سبتمبر/ أيلول من العام 2014، واجه الصحافيون اليمنيون أياماً سوداء. وبعدما خففت السلطات التي تولت الحكم في أعقاب الإطاحة بالرئيس الراحل علي عبد الله صالح إجراءات الرقابة على المشهد الإعلامي، انقلب الوضع لتمضي البلاد نحو أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ اجتياح الحوثيين لصنعاء.
قتل الصحافيين.. ثمن التغطية والموقف
وفق ما سجلته نقابة الصحافيين اليمنيين، فإن 45 صحافياً ومصوراً يمنياً فقدوا حياتهم منذ عام 2010، 38 منهم منذ 2015 بنيران المليشيا وقصف التحالف، كما اعتقل العشرات وتعرضت مقرات وسائل الإعلام للاقتحام والاحتلال من قبل الحوثيين. وقتل ستة صحافيين ومصورين إبان الثورة اليمنية، أبرزهم حسن الوظاف (مصور قناة الحرة)، وجمال الشرعبي، الذي وثقت كاميرات ناشطين لحظة اختراق رصاصة القناصة لرأسه في جمعة الكرامة الدامية في 18 مارس/ آذار 2011.
وفي عام 2011، انتقل اليمن إلى المرتبة 171 في التصنيف السنوي الذي تنشره منظمة مراسلون بلا حدود، وأكدت أن قوات الأمن واجهت بعنف الصحافيين الذين يغطون وقائع التظاهرات. ولقي نحو 26 صحافياً حتفهم برصاص قناصة وقصف مدفعي وصاروخي من قبل مليشيا الحوثيين في محافظات تعز، ومأرب، وذمار، والجوف، والضالع، وحجة، والحديدة، والبيضاء.
أحكام بالإعدام وإخفاء قسري
منذ التاسع من يونيو/ حزيران 2015، والصحافي عبد الخالق عمران مختطف لدى الحوثيين، وقد تعرض للتعذيب الجسدي وتدهورت حالته الصحية، ومُنع عرضه على أطباء مع عدد من الصحافيين المختطفين. وفي 11 إبريل/ نيسان من العام الماضي، أصدرت محكمة خاضعة للحوثيين حكماً بإعدام عمران وثلاثة من زملائه وبسجن عشرة صحافيين، لكنها أطلقت سراح المحكومين بالسجن ضمن مراحل من صفقة لتبادل الأسرى في أواخر العام الماضي. وينتمي عمران لحزب التجمع اليمني للإصلاح (محسوب على الإخوان المسلمين)، وكان رئيس تحرير لموقع "الإصلاح أونلاين" الناطق باسم الحزب. وقضت الأحكام الحوثية أيضاً بإعدام الصحافيين توفيق المنصوري، وحارث حميد، وأكرم الوليدي، فيما يواجهون مصيراً مجهولاً، إذ يخفي الحوثيون أي أخبار بشأن حالاتهم الصحية.
كذلك حوّل الحوثيون مدينة الصالح السكنية في محافظة تعز (جنوب غرب البلاد)، إلى سجن كبير للمعارضين، وبينهم الصحافيون. وتوفي الصحافي أنور الركن بعد يومين من إطلاق سراحه إثر اعتقال دام لنحو عام في سجن الصالح، تعرض خلالها للتعذيب.
وقالت منظمة مراسلون بلا حدود، في يونيو/ حزيران من عام 2018، إن الحوثيين تركوا الركن يهلك أثناء الأسْر دون تمكينه من الرعاية التي يحتاجها أو حتى إخطار عائلته في الوقت المناسب.
احتلال منازل صحافيين ومقرات إعلامية
لم تمرّ الأشهر الأولى بعد سبتمبر/ أيلول من العام 2014 بسهولة. إذ تحوّلت معظم مكاتب وسائل الإعلام في العاصمة اليمنية صنعاء بعد هذا التاريخ إلى مقرات يحتلها المسلحون الحوثيون. وبدأت الهجمات الحوثية تستهدف أولاً مقرات وسائل الإعلام الحكومية إما بالقصف أو الاقتحام، كما حدث لمقر تلفزيون اليمن الحكومي وصحيفة الثورة ومبنى وزارة الإعلام في صنعاء.
ووفق إحصائية لمنظمة حقوقية، فقد وثقت أكثر من 50 انتهاكاً تعرضت لها وسائل الإعلام، بعد شهر واحد من سيطرة الحوثيين، وشملت وسائل إعلام حكومية، وخاصة، وحزبية، وحملات تحريض واعتداءات تعرض لها صحافيون. ولم يكن الأمر متوقفاً على مقرات وسائل الإعلام، إذ شن الحوثيون حملة اقتحامات استهدفت منازل صحافيين مناهضين لهم بالإضافة إلى إرسال تهديدات بالتصفية الجسدية في حال استمر نشاطهم المعارض.
وفي المحافظات الجنوبية، نفذ المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات، منذ فرضه السيطرة على العاصمة المؤقتة عدن في أواخر عام 2019، اعتداءات بحق صحافيين ووسائل إعلام، إلى جانب اعتداءات ارتكبتها قوات تابعة للحكومة وأخرى سجلت ضد مجهولين.
عودة البث من خارج اليمن
مع موجة العنف التي وجهها الحوثيون للصحافيين، اضطرت وسائل الإعلام الحكومية والخاصة إلى نقل نشاطها إلى خارج اليمن. واستقر الحال بوسائل إعلام الحكومة في العاصمة السعودية الرياض، أبرزها تلفزيونَا اليمن وعدن وإذاعات محلية ووكالة سبأ الرسمية بتمويل من الحكومة السعودية.
واختارت محطات تلفزيونية غير حكومية إسطنبول والقاهرة وأبوظبي كمقرات لاستئناف نشاطها بعدما اقتحم الحوثيون مكاتبها في صنعاء وصادروا أجهزتها. كما غادر عشرات الصحافيين اليمن، وتوزعوا على بلدان عدة، فمنهم من اختار المنفى واللجوء هرباً من الحرب وبطش المليشيات.
ويتحدث الصحافي وليد البكس لـ"العربي الجديد"، كيف أنه في المرحلة التي سبقت الربيع العربي بعقد ونصف كان للصحافيين دور أساسي في مقارعة نظام صالح ومواجهته. يقول: "أتذكر أن الصحافة خاضت معارك واسعة مع أجهزة المخابرات في نظام صالح، ووسائل إعلام الحزب الحاكم شنّت حرباً ضروساً ضد الصحافيين المدافعين عن الحقوق والحريات ومن كانوا يتصدرون وقتذاك مشهد فضح الفساد. لكن هؤلاء الصحافيين الشجعان قادوا قطار إفشال مشروع التوريث الذي كان صالح ينوي نقله إلى نجله العقيد أحمد علي عبد الله صالح".
ويضيف البكس: "حتى جاءت ثورة 11 فبراير التي وجد فيها الصحافيون المستقلون والحزبيون أو من يعملون خارج سياق التوجه السلطوي ملاذاً، معتبرين أن ساعة الحقيقة قد دقّت، خصوصاً أن الظاهرات ترافقت مع انفتاح كبير على وسائل التواصل الاجتماعي، ما سهل العمل الإعلامي بمختلف الوسائل". ويتابع أن "هذه المرحلة بالذات شهدت حماسة كبيرة لدى الصحافيين، إذ تحول بعضهم إلى ثوار انخرطوا في الساحات والمسيرات للتغطية وللمشاركة بالفعل الثوري الاحتجاجي". ويصف البكس إلى اللحظة الفاصلة قائلاً "استمر ذلك إلى أن تعرضت الثورة لطعنات غادرة بعد منح النظام السابق حصانة من الملاحقة، فتركت له المجال ليعيد ترتيب تحالفاته كما هو معروف مع مليشيات الحوثي، شركاء الانقلاب على نظام فبراير". ويصف البكس ما حدث بعد انقلاب الحوثيين بالنكبة، إذ شنّ الحوثيون هجومهم الأول على وسائل الإعلام، فضلاً عن تعرض الإعلاميين للاختطاف والإخفاء والتعذيب. ويضيف "كثيرون غادروا صنعاء واليمن وتوزعوا في المنافي بعدما فروا من بطش المليشيات. هؤلاء لا يريدون أن يتحولوا إلى شهود زور في نظام مليشياوي".
عام غير مبشّر
لم يُبشّر عام 2021 الجديد اليمنيين بأي تغيير، بل بدأ بالدماء والدموع بالنسبة إليهم. فقد قُتل مراسل تلفزيون قناة "بلقيس"، أديب الجناني، خلال تفجير مطار عدن يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2020، بعدما انقطع الاتصال معه أثناء تغطيته على الهواء مباشرة، وهو ينقل بصوت متهدج الانفجارات المتتالية التي استهدفت مطار عدن الدولي. وكانت آخر كلماته خلال التغطية قد أوجزت المشهد الدامي الذي حلّ بالمطار، بعد أن استهدفت الهجمات صالة الاستقبال ومهبط الطائرات وبوابة المطار الجنوبية، قبل أن ينقطع الاتصال به ويُعلن بعد ساعات عن وفاته متأثراً بإصابة بليغة إثر شظية شقّت بطنه.
وكانت حصيلة هجوم مطار عدن كارثية بالنسبة للصحافيين المتواجدين في موقع الحدث، إذ أصيب نحو تسعة بين مراسلين ومصورين، فيما نجا آخرون من الهجوم يومها.
وفي الثالث من يناير/كانون الثاني الماضي، تُوفي الإذاعي اليمني البارز عقيل الصريمي (62 عاماً) بعد صراع مع المرض، في مسقط رأسه بقرية القريشة في مدينة تعز جنوب شرق البلاد. وكان الصريمي المولود عام 1958 أيقونة إذاعية فريدة في اليمن ولقّب بعميد المذيعين، وارتبط صوته بالذاكرة الشعبية خلال عمله الطويل الذي امتد طيلة حياته في الإذاعات المحلية اليمنية.
أما شهر فبراير/شباط الحالي، فقد شهد في اليوم الثاني منه توقّف بث قناة "سهيل" الناطقة باسم حزب الإصلاح اليمني التي كانت تبث من العاصمة السعودية الرياض، بعد تراكم مديونياتها وعدم قدرتها على دفع اشتراك القمر الصناعي ومرتبات الموظفين منذ ستة أشهر. القناة التي أعادت بثّها منتصف 2015، كان المسلحون الحوثيون قد صادروا، في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول من عام 2014، أجهزة بثها واستولوا على مكتبها، بعد يوم واحد من اجتياحهم للعاصمة صنعاء.
عشر سنوات مرّت على الثورة، عشر سنوات على تلك اللحظة التي لامست فيها قبضات اليمنيين نسائم خاطفة من الحرية... لكن عقداً كاملاً انقضى، لتكون الصحافة قد دفعت ضريبة ضخمة من الدم، وحجز الحرية والترهيب والمنفى... في انتظار وقت آخر ترتفع فيها القبضات مجدداً، لكن هذه المرة لبناء وطن تتسع شوارعه وساحاته لأقلام وكاميرات وأصوات تصنع مشهداً إعلامياً مختلفاً.