قناة بلقيس - على رصيف الذكريات، والحنين إلى الماضي، يقعد الصحفي -سابقاً- فيصل السراجي (38 عاماً)، منذ العام 2015، عند مدخل صندوق صغير، يبيع الثلج ويوزّع الابتسامات على المارّة والزبائن وعلى زُملائه المنسيين، وذلك بُعيد تجربة طويلة في العمل الصحفي، بدأت العام 1998.
وتنقّل بين قرابة تسع صحف أهلية يومية وأسبوعية، وبرَع في مختلف الفنون الصحفية المتعارف عليها، كما زاول مهاماً إدارية وفنية، تنوعت بين: التحرير الصحفي، والاخراج، والعلاقات العامة، والاستماع السياسي، ومتابعة الأخبار الدولية.
وتتوارى خلف مظهره المتواضع ولحيته الكثّة المكسية بالبياض قصة معاناة وهموم كبيرة تثقل كاهله، وتفصح عن وضع مادي ومعيشي متدهور، يقاومه كل يوم بآلته الحادة، التي يكسر بها قوالب الثلج الكبيرة، ويحوّلها إلى قطع تتناسب مع احتياجات الزبائن وقدراتهم الشرائية، ولا تتناسب مع تطلعاته في العودة إلى حلمه المسروق واستئناف العمل في رحاب "صاحبة الجلالة".
ووسط شروده المعتاد، والانهاك الذي يعتريه، يغرق في التفكير بالمفارقة العجيبة بين ماضيه وحاضره، وانحراف مساره المهني من صحفي متمرس ومؤهل وصاحب خبرة طويلة عمرها 16 عاماً إلى "بائع ثلج".
وأجبرت الحرب، الدائرة في البلاد للعام السادس على التوالي، الكثير من الصحفيين على مغادرة مهنهم والتوجّه نحو مزاولة أعمال أخرى، بينها أشغال شاقة، إلى جانب العمل في: غسل السيارات، وجمع النفايات، وبيع الخضار، والمياه المعدنية، وغيرها.
وخلّفت هذه الحرب أسوأ وأخطر بيئة للعمل الصحفي عالمياً، إثر إغلاق الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية وتهجير بعضها إلى خارج البلاد، ما أفقد العاملين فيها وظائفهم ورواتبهم، إلى جانب تعرّضهم للملاحقة والاعتقالات والتعذيب والقتل والاختطافات والاخفاء القسري.
قسوة
وشهد الإعلام اليمني انتكاسة خطيرة، حيث تلاشت واختفت وسائل إعلام كثيرة، وذلك بُعيد ازدهار، وحضور وتنوع وانفتاح، ما دفع الصحفيين وغيرهم نحو رصيف البطالة والفقر وشدة الحاجة، وأجبرهم على البحث عن أعمال بديلة، قد تمكّنهم من سد رمقهم، وتعْصمهم من الجوع مع أسرهم.
وتغيب نقابة الصحفيين عن المشهد، ما انعكس سلباً على وضع الصحفيين اليمنيين وفاقم معاناتهم، ودفع بهم إلى رصيف البطالة والتشرد والحرمان.
ومرّ السراجي بظروف صعبة وحياة قاسية، لكنه لم يستسلم، ولم ييأس، ولم يتواصل بأصدقائه وزملائه لطلب المساعدة، وتوفير فرصة عمل، لعزّة نفسه التي منعته من ذلك.
يقول لموقع "بلقيس": "استغنت عنّي إحدى الصحف أواخر العام 2014، فتدهور وضعي المادي والمعيشي، وساءت حالتي، وتفاقمت معاناتي، فلجأت نحو البحث عن مصدر آخر للعيش بكرامة، ولو بعائدات غير كافية، لتغطية احتياجاتي المعيشية".
ويضيف: "مع اندلاع الحرب في مارس العام 2015، تضاعفت مأساة الصحافة اليمنية، وكثرت العراقيل أمام الصحافيين، والذين توزّعوا بين المعتقلات والهجرة والاصطفاف الحزبي، وهو ما أجبر الكثيرين على تغيير وجهتهم وممارسة أعمال أخرى".
وبدا له حينها المشهد الصحفي مأساوياً والعمل فيه مخاطرة كبيرة في ظل الأوضاع السياسية والأمنية السائدة، والتي تقيّد حركة الصحفيين وتنقلاتهم، كما تغلق المُدن وتعزلها عن بعضها، في الوقت الذي تحوّلت الصحف المستمرة في الصدور إلى أبواق تمثل أطيافاً سياسية وحزبية معيّنة، لا تتسع لغير المنتمين لها، وهو ما زاد من قناعته لتغيير وجهته ومهنته، والتخلّي عن شغفه وحبه لمهنة المتاعب.
منعطف
وشد الرّحال نحو بيع الثلج، إثر تأكّده من صعوبة تقديم صحافة مهنية وعمل إعلامي مستقل، في ظل تبعية بعض وسائل الإعلام المطلقة، وترديدها أصوات أطراف الصراع، والجماعات المسيطرة هنا أو هناك.
ويزاول بيع الثلج طوال النهار، تحت أشعة الشمس الحارقة، والتي تفاقم من معاناته اليومية، في حين يعاني شدة البرد القارس في فصل الشتاء، والذي يقلّ فيه إقبال الزبائن على الثلج، كما تنخفض عائداته بشكل كبير، ويتضاعف عجزه عن الإيفاء بمتطلبات أسرته ومواجهة نفقاتها، ودفع إيجارات السكن وغيره، ما يُراكم عليه الديون ويثقل كاهله بالكثير من المسؤوليات والالتزامات.
وينشط عمله في فصل "الصيف"، ما يحقق تحسناً ملحوظاً في وضعه المعيشي، ويغطّي مصاريفه اليومية مع أسرته، وذلك خلافاً لأشهر الشتاء، والتي يشتد فيها البرد القارس، وتتجمّد الدماء في عروقه،
ويُنهك جسده، ويتسبب له بمضاعفات صحية كثيرة.
ويلفت: "أيام الحر، يزداد الإقبال، وتتحسن عائداتي، ما يمكنني من تغطية مصاريف أسرتي وسداد إيجارات الشقة، أما في أيام البرد فيحدث العكس، وأغرق في الديون والهموم".
ورغم مرور ست سنوات على مغادرته العمل الصحفي، يشدّه الحنين للاعلام الإنساني، وتبنّي قضايا المواطنين ومأساتهم من جديد، فيما تمنعه مخاوفه من الثمن الباهظ، الذي سيدفعه مع أسرته في حال عودته.
وتستمر مأساته منذ طفولته وفتوته، وحتى اليوم، لانحداره من أسرة فقيرة، لم تستطع توفير مصاريفه الجامعية، عقب تخرّجه من الثانوية العامة، وانتقاله إلى صنعاء للدراسة في قسم "الصحافة" بكلية "الإعلام" - جامعة صنعاء، ما اضطره إلى العمل حمّالاً في سوق الخضار، ثم موزعاً للصحف، وغيرها من الأعمال الشاقة، التي زاولها، إلى أن أكمل تعليمه الجامعي، والتحق بالعمل الصحفي.
ويتألم السراجي لحال الكثيرين من زملائه، الذين ساء وضعهم المعيشي، وأصبحوا عاجزين عن توفير قوتهم اليومي، وإشباع جوعهم، فيما لم يتوانَ عن مساعدة البعض منهم، وذلك بقدر استطاعته.
فرُوح الصحفي الإنساني لم تبارحه، إذْ يتذوّق حلاوة تلك الأيام، رغم الراتب الزهيد، الذي كان يتقاضاه، والبالغ 35 ألف ريال، كما يستهويه تبني قضايا المجتمع وإيجاد صحافة إنسانية حقيقية، بدلاً عن إعطائها مساحة ضئيلة في وسائل الإعلام.
ويرجع تعلّقه بالإعلام الإنساني إلى بثه روح التفاؤل والنظرة الإيجابية للحياة، وقدرته على التأثير الإيجابي، وتخفيف آلام المواطنين وإنقاذهم ومواساتهم، ونشر الثقافة الإنسانية، وتعزير قيم الرأفة والتراحم، وتشجيع العمل الخيري التطوّعي.
ويوضح: "كنت أشعر بالسعادة وأنا أخلق أثراً إيجابياً بين المحتاجين، وأسهم في إزالة معاناتهم وتفريج كربتهم وضيقهم، وهو شعور لا يضاهى، كوني لا أعرف هؤلاء الأشخاص، ولا تربطني بهم علاقة شخصية، سوى الإنسانية".
ويحنّ للعودة إلى العمل الصحفي في مجال الشؤون الإنسانية، وهي شجون تلازمه رغم صعوبة العودة، والتي ازدادت بُعيد زواجه، وتحمّله مسؤولية إعالة أسرتين، والانفاق عليهما.
ويظهر فلسفة خاصة في الحديث لموقع "بلقيس"، فاختتم بالقول: "الصحافة والعائلة خطان متوازيان لا يلتقيان".